
ازدانت مكتباتُنا في مطلع هذه السنة بالمُجلّد الثاني من أعمال الدوعاجي الكاملة (دار الجنوب/2015/413ص) ضمن سلسلة «أمّهات الكُتُب» التي تصدر بدعمٍ من وزارة الثقافة. واحتفى هذا المُجلّد بقصص الدوعاجي ونصوصه النثريّة، المعروفة والتي تُنشَرُ لأوّل مرّة في كتاب، بعد أن تولّى جمعها وتحقيقها والتقديم لها الأستاذ توفيق بكّار.
ليس من شكٍّ في أنّ صدور هذه الأعمال أمرٌ يستحقّ التنويه، أوّلاً لأنّ تكريمها بهذه السلسلة وتكريم السلسة بها حدثٌ في ذاته، وثانيًا لأنّ الرجل رائدٌ من روّاد الخصوصيّة التونسيّة في الكتابة، لغةً وأسلوبًا وإيقاعًا ومناخات، وما انفكّت العودةُ إلى نصوصه رحلةً ممتعة مليئة بالمفاجآت، تتجدّد بتجدّد دليلنا فيها وإليها.
والدليل هذه المرّة، كاتبٌ وباحث وأستاذ جامعيّ من طراز خاصّ. لذلك أريد التوقّف عنده وعند مقدّمته، تاركًا للقرّاء من النقّاد والأدباء وأحبّاء الأدب أن يعودوا إلى النصوص الدوعاجيّة، ما عرفوا منها وما يُنشَرُ لأوّل مرّة، كي ينظروا فيها بما يريدون وكلّ على طريقته.
أسأل أحيانًا: ماذا لو أنّ توفيق بكّار كتب القصّة أو الرواية؟ ثمّ أنظر إلى دروسه ومحاضراته ومقدّماته ومقالاته النقديّة، ما صدر منها وما لم يصدر، ما نُشر منها وما ظلّ طيَّ الكراريس أو في وجدان الأصدقاء وعلى ألسنة التلاميذ والزملاء، فأراه كتب القصّة والرواية في كلّ نصّ من نصوصه. وتحديدًا في مقدّمة هذا المُجلّد.
ولعلّه كان حكّاءً مفكّرًا أو مفكّرًا حكّاءً في كلّ درس وفي كلّ نصّ. وليت أحد النقّاد يتناول أسلوب الرجل يومًا فيوضّح لنا أيّ أثرٍ كان لهذه «الطاقة السرديّة المُفكِّرة» في تمكين الرجل من النفاذ إلى العقول والأرواح بالقدر الذي تميّز به عن الكثيرين.
برع توفيق بكّار مُفكّرًا حين عرف كيف يعقد الصلح بين جذور الفكر وأجنحته محرّرًا عقلَه من كلّ عُقدةٍ هُوَويّة أو ذوَبانٍ معرفيّ. كما برع ناقدًا حين عرف كيف ينفتح على الحداثة من موقع الخبير بالمأثور وكيف يتناول المأثور بمناهج النقد الحديث بعيدًا عن فخاخ التعسُّف والإسقاط. كما برع أستاذًا حين عرف كيف يُحرّر تلاميذه من ذهنيّة «المُريد» ويغرس فيهم حُبَّ السؤال ويدفعهم إلى الإبداع.
وأزعم أنّه برع أيضًا في التقديم للكُتُب والتجارب الإبداعيّة، بل لعلّه ارتقي بالتقديم إلى مستوى الفنّ وجعل منه جنسًا أدبيًّا مستقلاّ يُقرَأُ لذاته ويمنح قارئَه ما يَمنحُ الأدبُ من وجَعٍ ومتعة. وإنّك لَتقرأ لغيره يُقدّمُ لكتابٍ من الكُتُب فيُعجِبُك عِلمُه وقد تُدهِشُك نباهتُه، لكنّك تشعر بأنّ تلك المقدّمة تُحاصِرك بعُدّتها النقديّة وتقترح عليك طُرقًا للقراءة مُمَهَّدةً وسككًا للتأويل جاهزة، فإذا أنت توشِكُ أن تطوي الصفحات طيًّا كي تفرغ إلى الاطّلاع على الكتاب وتَدَبُّرِهِ بنفسِك.
بينما تقرأ لتوفيق بكّار يُقدّم لكتابٍ فتكاد تتمنّى أن تطول المقدّمة وتكاد تخشى أن تخلص إلى الكتاب فلا تجد فيه من المتعة ما وجدتَ في المقدّمة، لولا أنّك لست هنا أمام شارحٍ أو مُشَرِّح، بل أمام خيميائيّ فَذٍّ يعرف كيف يُقطّر المعلومة ويُدقّق العبارة ويحاورُ الغامض ويلمح إلى الخفيّ ويحرّك السواكن ويُثير الأسئلة، مع إحكام الإيقاع وإجادة السبك وإتقان الحبْك والحرص على «حياةِ النصّ»، فإذا أنت أشدّ ما تكون شوقًا إلى الاطّلاع عليه، وأكثر ما تكون استعدادًا لقراءته والاستمتاع به وتَأوُّلِهِ والتفكير فيه بما يُعيد كتابتَه على يديك.
وها هو توفيق بكّار في هذا المُجلّد، يكتُب لك عن الدوعاجيّ القاصّ والناثر فيأخذك إلى أيّامه ولياليه وأفكاره وهواجسه وإفصاحه وصمتِه وحِلِّه وترحاله ويصحبك إلى حيث وُلِدَتْ تلك الأقاصيص والنصوص ويصل بك إلى حيث ما كان الدوعاجي يسمح لأحد بالوصول ويأخذ بيدك كي تطلّ من بين الكلمات على ورشة الكتابة الدوعاجيّة فجرًا، أو ظهيرة، أو في الهزيع الأخير من الليل، حين يكون الرجل قد فرغ إلى الكتابة مطمئنًّا إلى أنّه وحيد بعيد عن عيون الرقباء.
يكتب لك توفيق بكّار عن قصص الدوعاجي فإذا هو يقصّ عليك بقدر ما يكتُب لك وإذا هو يجعل من الدوعاجي نفسِه قصّةً لعلّها أحكَمُ قصصه حبكة، وأطرفها أسلوبًا، وأشدّها تشويقًا، وأبعدُها أثرًا، وأملحها سخرًا، وأغناها بتلك اللغة السهلة الممتنعة التونسيّة العربيّة الحييّة الوقحة السوقيّة الأرستقراطيّة البلديّة الريفيّة التي وسمها الدوعاجي بميسمه فإذا هي عنوان على أدبه «ماركة مُسجّلة» باسمه.
هديّة نفيسة هذه التي أتحفتنا بها أستاذنا توفيق بكّار تنضاف إلى سلسلة هداياه. وكم أودّ أن يجد في هذه السطور بعضًا من الامتنان الذي ندين به إليه وبعضًا من الاعتراف الذي نراه حقًّا له علينا، جديرًا به وبعطائه، هو الذي ما انفكّ قدوةً لنا جميعًا، وما انفكّ يعمل ويكدح ويجتهد في سبيل الأدب التونسيّ، والفكر والثقافة والتنوير بشكلٍ عامّ، منذ أكثر من خمسين سنة.