قائمة المنشورات
صدر حديثا
أقوال الصحف
الإمارات اليوم , 11 Nov 2015 10:31
«سعادته.. الوزيــر».. ترقب اختمار الحلم
«سعادته.. الوزيــر».. ترقب اختمار الحلم

بين أكثر من عالم، قاع وقمة، أناس عاديين وصفوة حاكمة.. تتنقل رواية «سعادته.. السيد الوزير» للكاتب التونسي حسين الواد، إذ ينبش العمل هنا وهناك، يصعد ببطل الحكاية ظاهريا الى منصب رفيع، بينما هو في الحقيقة مجرد دمية في مسرح عرائس كبير، تحرك خيوطها يد «سعادته» المتحكمة في كل شيء، في تلك الفترة التي تقع فيها أحداث الرواية.

تحمل الرواية الصادرة عن دار الجنوب، إدانات بالجملة، تعري واقع ما قبل ثورة الياسمين في تونس الخضراء، وتراقب اختمار حلم ما، بعدما فاضت الأمور عن الحد، ووصل سيل الفساد الى كل حيز، كأنها تسجل بعض ممهدات ‬14 جانفي (يناير)، وهروب «سيادته» زين العابدين بن علي، وكذلك هروب سادة آخرين.

تحاول الرواية أن تفصّل مشاهد ربما كانت خفية عن أعين كثيرين، تلج الى دهاليز القرار وصناعه، يرسم المؤلف بخياله الروائي، المتماس مع وقائع حقيقية بالطبع، كيف كانت تدار أوطان، وتباع مقدارت أهلها، كأنها أملاك خاصة للنافذين فيها، ولا يهتم مبدع «سعادته.. السيد الوزير» بتعيين الأسماء ربما لأن أصحابها كانوا من الشهرة بمكان، فثمة «صاحب المقام السامي» وزوجته وبطانته وكثيرون من الأعوان، كانوا شركاء جميعا في الأسى الذي وصلت اليه البلاد، ولن يضيف تسجيل اعلام الطغيان جديدا الى العمل.

مهندس صفقات

لم يقنع معلم الصبيان (بطل الرواية)، بمهنته، ولم يساءل ذاته عن الصدفة المدبرة التي ساقته ليكون وزيرا مؤقتا، ومهندس صفقات مشبوهة، يشرف على التفريط في ممتلكات وطنه، ويبيعها بباخس الأثمان، بل ويحاول أن يؤجر برّ بلاده وبحرها وجوها لمن يدفع أكثر، بصورة عبثية، تستعصي على المنطق والعقل، كيما يرضى عنه رئيس الوزراء، ومن قبله الرئيس، الا أنه في النهاية يصل الى نقطة اللاعودة، بعدما يستشعر أنه لا فكاك من شبكة الصياد التي وقع فيها، فيهاجم الرئيس وعائلته، فيدفع به الى مستشفى المجانين، ليكون لفرد من الشعب (متهم بالجنون هو الآخر) رأي آخر، إذ يضع حدا لحياة ذلك «الخائن السارق» المشارك في بيع ممتلكات بلاده.

يبرز في الرواية التي تنافس على جائزة البوكر العربية، صوت السيد الوزير، الذي لم ينعم بالمنصب سوى فترة، إذ انتهت صلاحيته بعدما أدى الدور المطلوب، وصفحات العمل ما هي الا بمثابة مرافعة طويلة، يحاول بها الوزير المنتهي الصلاحية، والمتهم بالفساد والرشوة، تبرئة ساحته أمام المحقق ومن ورائه «سعادة» رئيس البلاد ومن بيدهم القرار، والمفارقة أن ذلك الوزير لم يتخل عن تزلفه ومحاولاته المستميتة في أن يقدم قرابين الولاء، حتى بعد أن استشعر أنه مجرد لعبة في يد ساسة كبار.

ظهر معلم الصغار الذي صار وزيرا، صاحب حجج براقة، ومبررات يقدمها لنفسه أولا، وللمحقق معه ثانيا، فهو آت من ماض عثر، وأيام صعبة، وشعاره في الحياة «الحاجة أقوى من الكرامة»، كأن ذلك مبرر للتنازل، بل والسقوط، والتفريط في كل شيء.

صائد «الطرائد»

تتعدد ملامح شخصية بطل الرواية، معظمها ينم عن رجل يهتبل الفرص، ويستغل حاجة الآخر، ويركض خلف «الطرائد» الجميلة، فما من سيدة رآها إلا وفكر في جسدها، وما سيمنحه له من خيرات ومسرات، يستوي في ذلك زميلات المدرسة، أو طالباتها، أو حتى ابنة صديق استعان به ليعطي لها دروسا، أو حتى سكرتيرات مكتبه بعدما صار وزيرا.

هنا أيضا لا يستنيم ذلك البطل، إذ يحاول أن يضع مبررات، فهو لم يخدع أي سيدة انساقت له، بل كان هناك «إيجاب وقبول»، لذا فضميره مرتاح تماما لماضيه، فمعـظم الإناث الـلواتي استجـبن له لم يجـبرهن على شيء، وكـن شخصيات تنتـظر إشارات، كان يبـادر بهـا ذلك العـارف بشـؤون الأخريات، كما يدعي. تسيطر تلك الغريزة على شخصية الرواية الرئيسة، تستوي في ذلك حاله عندما كان مجرد معلم صبيان، وبعدما صار وزيرا، تتولى شؤون مكتبه جميلات يتم انتقاؤهن على «الفرازة» كما يقال.

ورغم المأساة التي يتعرض لها بطل الحكاية، إلا أنه لا يتخلى عن الحس الساخر الذي يطغى على أسلوبه وتبريراته ودفاعاته عن صبواته في أحايين كثيرة، إذ يعرض جانبا من المأساة العامة في بلاده عبر ذلك المنحى، وثمة تداعيات دون حصر تتوالى على لسانه، تخلط بين الجد والهزل، تمزج بين شخصيتي معلم ابتدائي وسياسي يمارس مهامه في وزارة عبثية، تم اختراعها لتقوم بمهمة ما، في لحظة بعينها.

وتختصر تداعيات بطل الحكاية ـ الذي يحاول الدفاع عن ذاته بعدما رفض المحامون تولي ذلك ـ بعض هموم الناس، الفقراء المنسيين في الضواحي، الذين يلجأون الى الوزير، ويبثون شكاواهم في رسائل لعلها تجد أذنا، لكنها لا تكون صاغية.

نماذج

تبقى هناك شخصيات أخرى، أكملت الحكاية، وأحكمت الدائرة حول بطلها، ومن أبرزها «صاحب المعالي السيد الوزير رئيس الوزراء»، من دبر النقلة الكبرى في حياة ابن خالته معلم الصبيان، لغاية في نفسه، ونفس سيده الأكبر رئيس الدولة، ورغم أنهما تربيا معا، الا أنه كان بينهما تنافس ما، فمعلم الصبيان تفوق في الصغر، بينما الآخر سبق في النهاية، إذ أكمل تعليمه خارج البلاد، واستطاع أن يتقرّب الى الساسة وأعضاء الحزب الحاكم، حتى ولو استدعى ذلك الأمر المصاهرة، والارتباط بزوجة بعد أخرى، ومن يترك أبوها المنصب يطلقها ذلك الساعي للسلطة ويبحث عن أخرى، واستطاع أن يصل الى أعلى المناصب في الدولة، وتوطدت علاقته بسيدة البلاد الأولى، لكن نهايته تكون مرة هو الآخر.

ثمة نماذج نسائية أيضا في «سعادته.. السيد الوزير»، بعضها يؤثر في مسيرة سيد الحكاية المعلم الوزير، ومن أبرزها شخصية الخالة «خدوج» (خديجة) واحة السكينة الوحيدة ربما في حياة السارد، المرأة التي يلجأ اليها كثيرا لبثّ همومه، ويرتمي على صدره كأم، وإن بدا في تلك العلاقة انحراف ما أحيانا.

من النماذج النسائية في الرواية أيضا شخصية الزوجة التي كانت تضيق بأحوال زوجها المدرس، وتغيرت حالتها بعد ترقيه وتسلمه الوزارة، امرأة أنجبت أربعة أطفال، ومازالت تحتفظ ببعض جمال، الا أن ذلك لم يكن كافيا لإرضاء زوج تقف على عتبة باب مكتبه حسناوات منتقيات بعناية.

تحاول تلك الزوجة إصلاح ما أفسده الدهر، وتقليد نساء الوزراء، تنشغل بذلك، وتفاجئ مع شريك حياتها بأن الأبناء قد صار لهم شأن آخر، إذ تحولت البنت الكبرى الى «عاهرة» كما نعتها أبوها الوزير، بينما الولدان أدمنا المخدرات وأشياء أخرى، لتكتمل بذلك الكوارث حول المعلم الوزير، وتضيع أحلامه، وأحلام أسرته، من أجل منصب مؤقت.

ومن أجواء الرواية: «اتجهت الى غرفة النوم ألتمس شيئا من الراحة، فاليوم يوم جمعة، أستقبل في نصفه الثاني أفواج المقبلين على الدروس الخصوصية، كبر عليَّ، أول الأمر، أن أفتح بيتي لمثل هذه الدروس، أنا المعلم الحاذق الماهر الذي ينظر اليه الجميع بكثير من الإجلال، ويتقاتل الأولياء على أن يكون أبناؤهم في فصلي، لكن الحاجة أقوى من الكرامة، هل الذنب ذنبي إذا كان الراتب الذي أتقاضى في تنازل مستمر، وكانت طلبات ابنائي الأربعة في تصاعد دائم إذ كانوا يجارون أولاد الذوات الجدد، هل الذنب ذنبي إذا كنت قد ابتليت بزوجة لا تفرق ورقة من ذات الدينار وأخرى من ذات العشرين دينارا؟ أم الذنب ذنبي، سيدي الحاكم، إذا كنت تقف مثلي، حاشى قدرك السامي، أمام الجزار تعد نقودك لتطلب بقة في الجيب متناهية نصف رطل من اللحم، فيرفعك الجزار ويضعك مرة ومرة مستغربا ويقول: (مالك يا سي فلان، خذ أربعة أرطال وسدد وقتما تشاء إذا لم يكن معك الآن ما يكفي)، أو تفتح لك حساب تموين لدى العطار لتقوم بالتسديد في بداية كل شهر وإن كان لا يخامرك شك في أنه يسرقك، فإذا حان الموعد واستكثرت المبلغ فجعلت تراجع الحساب بحثا عن خطأ كنت تستعد لحمله على السهو نظر اليك صاحب المحل شزرا وقال: (مالك يا سي فلان؟ نقصت فينا الثقة أم ماذا؟)».